كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكلّ توجّه وسؤال والتجاء ينضاف إلى هذا الاسم، فإنّه إنّما ينضاف إليه بنسبة جزئيّة مقيّدة بحسب حال المتوجّه والسائل والملتجئ، فلا يذكر ولا يرد مطلقا إلّا من حيث اللفظ فحسب لا من حيث الحقيقة فإنّه إذا قال المريض- مثلا- يا اللّه، فإنّما يلتجئ إلى هذا الاسم من كونه شافيا ومن كونه واهبا للعافية، وكذا الغريق إذا قال: يا اللّه، فإنّما يتوجّه إلى هذا الاسم الجامع للأسماء من كونه مغيثا ومنجيا ونحو ذلك.
وهكذا الأمر في الحمد لابد من أن يتعيّن بحسب أحد الأمور التي سلف ذكرها بحيث يكون هو الباعث على الحمد والموجب له.
وهذا الاسم كثر القول فيه والخلاف في أنّه هل هو جامد اسم علم، أو مشتقّ؟ ولهم في هذا كلام كثير لست ممّن يشتغل بنقله وقلبه، وإنّما أذكر ما تقتضيه قاعدة التحقيق بحسب ذوقي ومعرفتي، وأوفّق بينه وبين ما يقتضيه حكم اللسان- إن شاء اللّه تعالى-، فأقول:
لا يصحّ أن يكون للحقّ اسم علم يدلّ عليه دلالة مطابقة بحيث لا يفهم منه معنى آخر، وسأوضّح لك سرّ ذلك بلسان الذوق والنظر والاصطلاح اللغوي، الذي به نزل القرآن العزيز، وهو ظرف المعاني والأوامر والإخبارات الشرعيّة.
فأمّا ذوقا فإنّ الحقّ من حيث ذاته وتجرّده عن سائر التعلّقات لا يقتضي أمرا ولا يناسبه شيء، ولا يتقيّد بحكم ولا اعتبار، ولا يتعلّق به معرفة، ولا ينضبط بوجه، وكلّ ما سمّى أو تعقّل بواسطة اعتبار أو اسم أو غيرهما فقد تقيّد من وجه، وانحصر باعتبار، وانضبط بحكم، والحقّ من حيث إطلاقه وتجرّده وغناه الذاتي لا يجوز عليه شيء ممّا ذكرنا، ولا يصحّ عليه حكم سلبي أو إيجابي أو جمع بينهما أو تنزّه عنهما، بل لا لسان لهذا المقام ولا حكم عليه، كما تقرّر ذلك من قبل وتكرّر.
وقد بيّنّا أيضا فيما مرّ أنّ إدراك حقائق الأشياء من حيث بساطتها ووحدتها متعذّر لأنّ الواحد والبسيط لا يدركه إلّا واحد وبسيط، ويتعذّر إدراكنا شيئا من حيث أحديّتنا لما سلف، ولا خلاف في أحديّة الحقّ وتجرّده من حيث ذاته وعدم تعلّقه بشيء تجرّدا يعلو على كلّ تجرّد وبساطة، فإذا عجزنا عن إدراك حقائق الأشياء في مقام تجرّدها- والمناسبة ثابتة بيننا من عدّة وجوه مع عدم خلّوها عن التعلّق والقيود- فلأن نعجز عن إدراك حقيقة الحقّ وضبطها أولى وإذا ثبت عجزنا عن التحقّق بمعرفتها،- وإن شهدناها- فتسميتنا لها باسم يدلّ عليها بالمطابقة دون استلزامه معنى زائدا على كنه الحقيقة متعذّرة ضرورة.
فإن قيل: هب أنّه يستحيل أن نضع لذات الحقّ اسما علما مطابقا كما ذكرت ولكن لم لا يجوز أن يسمّي الحقّ نفسه باسم يدلّ على ذاته بالمطابقة، ثم يعرّفنا بذلك، فنعرف ذلك الاسم وحكمه بتعريفه كون هو المسمّي نفسه على ما يعلمها لا نحن؟
فنقول: الجواب عن هذا من وجهين. أحدهما الاستقراء، فإنّ هذا النوع لم نجده في الأسماء، ولا نقل إلينا عن الرسل الذين هم أعلم الخلق باللّه، وسيّما نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله الذي نعتقد أنّه أكمل الرسل وأعلمهم صلّى اللّه عليه وآله. ولو كان لنقل إلينا، وكيف لا؟ ومثل هذا من أهمّ ما يخبر به، وأعزّه وأنفعه، سيّما فيما يرجع إلى الالتجاء إلى اللّه والتضرّع في المهمّات إليه، وخصوصا والنبيّ صلّى اللّه عليه وآله يقول في دعائه: «اللهمّ إنّي أسألك بكلّ اسم سمّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من عبادك، أو استأثرت به في علم غيبك».
فهذا ممّا يستروح منه أنّ السؤال من الحقّ بأعزّ أسمائه وأحقّها نسبة إليه أنفع للسائل وآكد في أسباب الإجابة ونيل المراد، وأحقّ الأسماء نسبة إليه سبحانه ما كملت دلالته عليه وتوحّد معناه دون مشاركة في المفهوم منه وحيث لم نجد ذلك مع مسّ الحاجة إليه والاسترواح الحاصل من مفهوم الدعاء النبوي دلّ على عدم ظهور هذا الاسم من الحقّ، فهو إمّا أمر متعذّر في نفسه، أو هو ممّا استأثر به الحقّ في علم غيبه، كما أخبر صلّى اللّه عليه وآله.
ولو أمكن حصوله لأحد من الخلق لحصل لنبيّنا صلّى اللّه عليه وآله فإنّه أكرم الخلق على اللّه، وأتمّهم استعدادا في قبول فيضه والتلقّي منه، ولهذا منح علم الأوّلين والآخرين، فلو حصل له هذا الاسم- مع ما تقرّر أنّ مثل هذا يكون أجلّ الأسماء وأشرفها وأكملها لكمال مطابقة الذات واختصاصه بكمال الدلالة عليها، دون تضمّنه معنى آخر يوهم اشتراكا، أو يفهم تعدّدا أو كثرة أو غير ذلك- لم يحتج أن يقول صلّى اللّه عليه وآله في دعائه: «أو علّمته أحدا من عبادك، أو استأثرت به في علم غيبك». فإنّ من ظفر بأجلّ ما يتوسّل به إلى الحقّ ويرغب به إليه، استغنى عن التوسّل بغيره، سيّما على سبيل الإجمال والإبهام، لعلوّ هذا الاسم على ما سواه من الأسماء فلمّا استعمل صلّى اللّه عليه وآله في دعائه التقاسيم المذكورة عملا بالأحوط، وأخذا بالأولى والأحقّ، علم أنّه لم يكن متعيّنا عنده.
فإن قيل: قد رأينا من عباد اللّه- وسمعنا أيضا عن جماعة- أنّهم عرفوا اسما، أو أسماء للحقّ، فتصرّفوا بها في كثير من الأمور، وكانوا يدعون الحقّ بذلك فيما يعنى لهم، فلم تتأخّر إجابته إيّاهم فيما سألوا، وهذا مستفيض وصحيح عند المحقّقين من أهل اللّه، ومن هذا القبيل مسألة بلعام في دعوته على موسى عليه السّلام وقومه بالاسم، حتى ماتوا في التّيه بعد أن بقوا فيه حيارى ما شاء اللّه من السنين، وقد ذكر ذلك جماعة من المفسّرين في معنى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا} هذا، مع أنّ بلعام من الغاوين كما أخبر اللّه.
ومع ذلك نفذت دعوته في موسى عليه السّلام وقومه لخاصية الاسم.
فنقول في جواب ذلك: نحن لم نمنع أن يكون للحقّ اسم أو أسماء يتصرّف بها في الوجود من مكّنه الحقّ منها وعرّفه بشيء منها، بل نتحقّق ذلك ونتيقّنه، وإنّما منعنا عموم نفوذ حكم الاسم، وأن يكون دلالته على ذات الحقّ بالمطابقة التامّة، دون تضمّنه معنى آخر غير الذات، كالصفات والأفعال ونحو هما، وما ذكرتم لا ينافي ما قرّرناه، فاعلم ذلك.
والجواب الآخر: أنّ التعريف الواصل إلينا من الحقّ بهذا الاسم لا يمكن أن يكون بدون واسطة أصلا، ونحن نبيّن ذلك ونقرّره باللسان الشرعي والذوقي، أمّا الشرعي فقوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} الآية.
وأمّا الذوقي فإنّ أقلّ ما يتوقّف عليه الخطاب حجاب واحد، وهو نسبة المخاطبة، الحاصلة بين المخاطب والمخاطب، والخطاب من أحكام التجلّي ولوازمه، والتجلّي لا يكون إلّا في مظهر، وأحكام التجلّي تابعة للمظاهر وأحوالها فإنّه قد بيّنّا أنّ تجلّي الحقّ وخطابه وإن كان واحدا، فإنّه ينصبغ بحكم ما يصل إليه ويمرّ عليه، والمخاطب مقيّد باستعداد خاصّ ومرتبة وروحانيّة وحال وصورة وموطن وغير ذلك. ولكلّ ممّا ذكرنا أثر فيما يرد من الحقّ.
فإذا ما يرد علينا ويصل إلينا، لم يبق على ما كان عليه، ولم يصحّ إدراكنا له بحسبه، بل بحسبنا.
ثم لو فرضنا أنّه لم يلحق ذلك الخطاب تغيّر من حيث القابل ونسبته، كما صحّ وثبت، لكان مجرّد تقيّده بالصفة الخطابيّة اختصاصها بمخاطب واحد أو مخاطبين مخرجا له عمّا كان عليه من الإطلاق والتجريد التامّ، الذي يقتضيه الحقّ لذاته. فكيف؟
والأمر لا ينفكّ عن أحكام القيود المنبّه عليها وإذا كان الأمر على ذلك، فلا مطابقة لأنّ المقيّد بعدّة اعتبارات وقيود لا يطابق المطلق التامّ الإطلاق والتجريد، العاري عن كلّ نعت وصفة وحكم وقيد واعتبار وغير ذلك.
فإن ادّعى معرفة هذا الاسم بطريق الشهود من حيث أحديّة التجلّي والخطاب، فنقول:
الذوق الصحيح التامّ أفاد أنّ مشاهدة الحقّ تقتضي الفناء الذي لا يبقى معه للمشاهد فضلة يضبط بها ما أدرك.
وفي التحقيق الأتمّ أنّه متى شهد أحد الحقّ فإنّما يشهد بما فيه من الحقّ، وما فيه من الحقّ عبارة عن تجلّيه الغيبي الذي قبله المتجلّى له بأحديّة عينه الثابتة المتعيّنة في العلم، التي يمتاز بها عن غيره من الوجه الخاصّ دون واسطة، فاستعدّ به لقبول ما يبدو له من التجلّيات الظاهرة فيما بعد بواسطة المظاهر الصفاتيّة والأسمائيّة.
وبهذا حصل الجمع بين قولهم: ما يعرف اللّه إلّا اللّه وقولنا: لا يمكن إدراك شيء بما ينافيه وبين دعوى العارف أنّه قد عرف اللّه معرفة ذوق وشهود. ومن عرف سرّ قرب الفرائض والنوافل وما بيّنّا في ذلك، تنبّه لما أومأنا إليه.
وعلى كلّ حال، فنحن مقيّدون من حيث استعدادنا ومراتبنا وأحوالنا وغير ذلك، فلا نقبل إلّا مقيّدا مثلنا وبحسبنا كما مرّ، والتجليات الواردة علينا- ذاتيّة كانت أو أسمائيّة وصفاتيّة- فلا تخلو عن أحكام القيود المذكورة، ومن التقط ما قدّمنا من التنبيهات، وجمع النكت المبثوثة مستحضرا لها، استغنى عن مزيد البيان والتقرير، فإنّه قد سبق ذكر ما يستنتج منه مثل هذا وغيره من الأسرار الجليلة.
ثم نقول: وأمّا التقرير العقلي فهو أن يقال: المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمّى، فلو كان للّه بحسب ذاته اسم، لكان المراد من ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمّى، فإذا ثبت بالاتّفاق أنّ أحدا لا يعرف ذات الحقّ البتّة، لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة فثبت أنّ هذا النوع من الاسم مفقود.
وأيضا فالاسم الموضوع إنّما يحتاج إليه في الشيء الذي يدرك بالحسّ ويتصوّر في الوهم وينضبط في العقل، حتى يمتاز بذلك الاسم الموضوع إلى ذاته المخصوصة، والحقّ سبحانه يمتنع إدراكه بالحواسّ، وكذا تصوّره في الأوهام، وانضباطه بمدارك العقول، فيمتنع وضع الاسم العلم له.
إنّما الممكن في حقّه سبحانه أن يذكر بالألفاظ الدالّة على صفاته، كقولنا: خالق وبارئ ومحسن ونحو ذلك.
ثم المقصود من وضع الاسم العلم له هو أن يتميّز ذلك المسمّى عمّا يشاركه في نوعه أو جنسه أو ما كان، والحقّ منزّه عن أن يكون تحت جنس أو نوع، أو يشاركه أحد، فيمتنع وضع اسم علم له.
ثم إنّ الاسم العلم لا يوضع إلّا لما كان معلوما، والخلق لا يعلمون الحقّ من حيث ذاته، فكان وضع الاسم العلم له محالا.
وأيضا فالألفاظ إنّما تدلّ على ما تشخّص في الأذهان، لا على ما في الأعيان، ولهذا قيل: الألفاظ تدلّ على المعاني، والمعاني هي التي عناها العاني، وهي أمور ذهنيّة، والدليل عليه أنّه إذا رئي جسم من بعيد، وظنّ أنّه صخرة، قيل: إنّه صخرة، فإذا قرب وشوهدت حركته، قيل: طير، فإذا قرب جدّا، قيل: إنسان، فاختلاف الأسماء لاختلاف التصوّرات الذهنيّة يدلّ على أنّ مدلول الألفاظ هو الصور الذهنيّة، لا الأعيان الخارجيّة.
وممّا يؤيّد ما ذكرنا أنّ اللفظ لو دلّ على الوجود الخارجي لكان إذا قال إنسان: العالم قديم، وقال غيره: العالم حادث، لزم كون العالم قديما حادثا معا. أمّا إذا قلنا: الألفاظ دالّة على المعاني الذهنية، كان هذان القولان دالّين على حصول هذين الحكمين من هذين الإنسانين بحسب تصوّرهما الذهني، ولا تناقض في ذلك.
وإذا صحّ أنّ مدلول الألفاظ هو ما في الأذهان، لا ما في الأعيان، والذي في الأذهان أمور متشخّصة متقيّدة متميّزة عن باقي المتشخّصات الذهنيّة، والحقّ من حيث ذاته معتل عن سائر التشخّصات والتصوّرات الخارجيّة والذهنيّة والعقليّة، فكيف تكون الألفاظ اليسيرة المركّبة- تركيبا جزئيّا- دالّة على ذاته المطلقة دلالة تامّة على سبيل المطابقة، دون اشتراك بحكم وضعي، أو مفهوم مقيّد بقيد وضعي أو اصطلاحي؟! هذا تعذّره بيّن جدّا.
وبعد أن قرّرنا حكم ما قصدنا تقريره باللسانين: الذوقي والعقلي، فلنتمّم ذلك بذكر ما يقتضيه حكم اللسان في هذا الاسم ليحصل الجمع والتطبيق الذي التزمته في أوّل الكتاب، والتوفيق بين الحكم الذوقي والاصطلاح اللغوي العربي، واللّه الموفّق.
قال بعض أهل العربيّة في الاسم اللّه: إنّه قد خصّ بسبع خواصّ لا توجد في غيره من الأسماء:
إحداها: أنّ جميع أسماء الحقّ تنسب إلى هذا الاسم، ولا ينسب هو إلى شيء منها.
واستدلّ بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها} فنسب جميع أسمائه إليه، ولم يفعل ذلك بغيره تنبيها على جلالته.
ومنها: كونه لم يسمّ به أحد من الخلق، بخلاف باقي الأسماء. واستدلّوا بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي هل تعلم شيئا يسمّى باللّه غيره؟
ومنها: أنّهم حذفوا يا من أوّله وزادوا ميما مشدّدة في آخره، فقالوا: اللهمّ ولم يفعل ذلك بغيره.
ومنها: أنّهم ألزموه الألف واللام عوضا عن همزته، ولم يفعل ذلك بغيره.
ومنها: أنّهم قالوا: يا اللّه، فقطعوا همزته، ولم يفعل ذلك بغيره، وجمعوا بين يا التي هي للنداء والألف واللام، ولم يفعل ذلك بغيره إلّا في ضرورة الشعر، كقوله:
من أجلك يا التي هيّمت قلبي ** وأنت بخيلة بالودّ عنّي

وأنشد الفرّاء:
مبارك هو ومن سمّاه ** على اسمك اللهمّ يا اللّه

وقال آخر:
يا لغلامان اللذان فرّا ** إيّاكما أن تكسباني شرّا